16‏/01‏/2010

يوميات طفل قديم (9) ـ (10) ـ (11)

(42)

(9)
عمى محمود طويلة جارنا حكاية جميلة. رجل جاوز الستين، بشوش المنظر. يضحك كثيراً ويعاكس طوب الأرض. خارج المنزل يرتدى البدلة كاملة ويضع منديلاً حريرياً مزركشاً فى جيب الـﭽـاكتة. يمسك عصا بيده لزوم الشياكة، أنا أعلم أنه لا يحتاجها لأنه كان يجرى خلفى على السلم بدون عصا وهو يرتدى ملابسه الداخلية فى الصيف لأنه لا يحتمل الحر. كان لا يخجل من ارتدائه ملابسه الداخلية فهو يعتبر كل البيت عائلته. كان يشتم بسهولة وخفة دم ويستعمل أية شتائم دون حرج.
اعتاد عمى محمود أن يدق جرس الشقة ويجرى نحو شقته المقابلة لنا ليقفل الباب وينتظر خلفه مترقباً، كنت أعلم أنه ينظر من ثقب الباب. أنتظر قليلاً ثم أفتح باب الشقة بهدوء، أتسحب دون صوت وأدق جرس باب عم محمود. يفتح الباب فجأة ويحتضننى مقهقهاً.
كان يعطينى شيئاً يسمى "السن سن"، نوع من الحلوى صغير جداً ولكنه لذيذ. عندما مات عمى محمود جريت فى الشارع بأقصى سرعة لأحضر طبيباً. قال لنا: "شدوا حيلكم... البقية فى حياتكم". شعرت يومها أن الدنيا غادرة وليست جميلة... وأننى لا أحبها.

(10)
هل لابد أن يأكل الإنسان بالعافية. أنا لا أحب الكوسة كما لا أحب الخرشوف. أشعر أننى سأتقيأ ومع ذلك حميدة مربيتى تصر أن آكل رغم انفى. تزنقنى فى المطبخ بين الحائط والطبلية المستديرة وتضع الأكل عنوةً فى فمى، بعدها تأخذنى للاستحمام من رذاذ الصلصة المنتشرة على ملابسى بسبب المعركة... واللهِ شىء يكفر.

(11)
يوم السبت أول الأسبوع. هو يوم خالتى أم عبده. خالتى أم عبده تضطلع بمهمة الغسيل فى بيتنا منذ وعيت.
سيدة طيبة عجوز يقولون إن زوجها توفى وهو صغير فى السن وإنها تشقى لتربى ابنها عبده أحسن تربية. ترتسم الطيبة على ملامحها خاصة عندما تشرق ابتسامتها الحانية على ثغرها الخالى من الأسنان. كنت مغرماً بملاءتها اللف السوداء.
أرقبها وهى تلفها حول جسمها بخفة وإحكام قبل أن ترحل.
سيمر أسبوع كامل قبل أن نراها تطرق الباب صباح السبت.
كنت أحب الجلوس أمامها على كرسى المطبخ والطشت بيننا.
على يسارها كوم الغسيل وعلى يمينها حلة الغسيل الكبيرة فوق موقد الجاز البريموس الذى يسبب ضجة كبيرة فى الحمام.
تجلس خالتى أم عبده جلسة الغسيل. رجل مفرودة حول الطشت والأخرى مضمومة إليها فى رشاقة بالغة.
نضع قطع الصابون الصغيرة التى يسمونها براوى الصابون، نضعها فى حلة الغسيل، هذه يطلقون عليها أيضاً حلة الغليَّة، وتأخذ فى إسقاط الغسيل فى الحلة بمهارة شديدة. أجمل ما فى الغسيل هو عصاية الغليَّة، عصا خشبية طولها يماثلنى فى الطول. كنت ارجو خالتى أم عبده أن تتركنى ألعب بها مثلها فى حلة الغسيل. كانت ترفض خوفاً علىَّ. أبدأ فى الرجاء والتوسل فتضعف مقاومتها لكنها تشترط أن تمسك بها معى ونحن نلعب فى الحلة حتى لا أقلب الحلة علىَّ. يقولون على دور الغسيل فُم غسيل. آخر فُم غسيل تستخدم خالتى أم عبده الزهرة الملفوفة فى الشاش، الزهرة لونها أزرق. تقول خالتى أم عبده إن هذه الزهرة تزهزه الغسيل.

من كتاب "يوميات طفل قديم" . ذكريات طفولة.