28‏/07‏/2010

(50)


(11)
يوم السبت أول الأسبوع. هو يوم خالتى أم عبده. خالتى أم عبده تضطلع بمهمة الغسيل فى بيتنا منذ وعيت.
سيدة طيبة عجوز يقولون إن زوجها توفى وهو صغير فى السن وإنها تشقى لتربى ابنها عبده أحسن تربية. ترتسم الطيبة على ملامحها خاصة عندما تشرق ابتسامتها الحانية على ثغرها الخالى من الأسنان. كنت مغرماً بملاءتها اللف السوداء.
أرقبها وهى تلفها حول جسمها بخفة وإحكام قبل أن ترحل.
سيمر أسبوع كامل قبل أن نراها تطرق الباب صباح السبت.
كنت أحب الجلوس أمامها على كرسى المطبخ والطشت بيننا.
على يسارها كوم الغسيل وعلى يمينها حلة الغسيل الكبيرة فوق موقد الجاز البريموس الذى يسبب ضجة كبيرة فى الحمام.
تجلس خالتى أم عبده جلسة الغسيل. رجل مفرودة حول الطشت والأخرى مضمومة إليها فى رشاقة بالغة.
نضع قطع الصابون الصغيرة التى يسمونها براوى الصابون، نضعها فى حلة الغسيل، هذه يطلقون عليها أيضاً حلة الغليَّة، وتأخذ فى إسقاط الغسيل فى الحلة بمهارة شديدة. أجمل ما فى الغسيل هو عصاية الغليَّة، عصا خشبية طولها يماثلنى فى الطول. كنت ارجو خالتى أم عبده أن تتركنى ألعب بها مثلها فى حلة الغسيل. كانت ترفض خوفاً علىَّ. أبدأ فى الرجاء والتوسل فتضعف مقاومتها لكنها تشترط أن تمسك بها معى ونحن نلعب فى الحلة حتى لا أقلب الحلة علىَّ. يقولون على دور الغسيل فُم غسيل. آخر فُم غسيل تستخدم خالتى أم عبده الزهرة الملفوفة فى الشاش، الزهرة لونها أزرق. تقول خالتى أم عبده إن هذه الزهرة تزهزه الغسيل.

(12)
موضوعات الإملاء فضيحة. أعود للبيت والخطوط الحمراء تملأ الصفحة. ثمانية أخطاء فى أربعة أسطر. ينهض أبى من النوم ويشرب الشاى بالحليب. يفتح المذياع على قرآن الساعة الثامنة قبل نشرة الأخبار. ينادينى لتصحيح الإملاء ودائما يتعجب. لا أدرى مم يتعجب؟ فعلاً صعب جداً. دائماً أتحير هل هى فتحة أم ألف، كذلك الواو والضمة. وموضوع "حمار" التى يقولها لى يستفزنى جداً. هل كان جدى يقول له "حمار" عندما يخطىء فى الإملاء؟ لن أقول لابنى "حمار" أبداً.

(13)
النشافة هى أكثر الأدوات المدرسية متعةً بالنسبة لى.
جسمها الذى يشبه جسم البطة ومقبضها المستدير الشكل وهو يدور حول العامود المقلوظ ليفسح الطريق لورق النشاف كى يدخل فى مكانه ثم يعود فيطبق عليه حتى يثبته فى مكانه. كنا نكتب بالريشة بعد غمسها فى الدواة لكى نلعب بالنشافة. نؤرجحها يميناً ويساراً فوق الكلمات المنثورة على الورق ثم نقلبها وننظر إليها فى حب استطلاع ، ترى أى الأشكال انطبعت على سطح النشاف.
نعاود الكتابة والإطباق عليها بالنشافة حتى يتشكل لنا عالم من النقوش المنفلتة بلا نظام، نقاط صغيرة وكبيرة وشابيك وعيون وأجسام عجيبة.
ورق النشاف الجيد ليس من السهولة الحصول عليه.
النشاف يباع على شكل أفرخ كبيرة نشتريها ونقطعها باقتصاد شديد حسب حجم النشافة. كان الاقتصاد فى حجم الورقة ونحن نقصها يؤتى أحياناً بنتيجة عكسية عندما نحاول تثبيت ورقة النشاف فى النشافة. نكتشف أن الورقة أقصر قليلاً مما ينبغى فلا نستطيع تثبيتها جيداً دون أن تفلت منا فنضطر إلى قص ورقة أخرى من الفرخ فى أسى، والفكرة الأساسية فى ورق النشاف الجيد هى ألا يشف الحبر عليه فينتشر على سطحه بلا نظام ويفسد بالتالى عالمنا الصغير الذى نشكله على سطحه.

من كتاب "يوميات طفل قديم" . ذكريات طفولة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق