23‏/11‏/2010

العـَود الأبدى

(57)

وقعت بأحرف توقيعى الأولى
فوق بدايات الحـُـلم وأغفيت
وقعت بأحرف توقيعى الأولى
فوق بدايات التيه وأقلعت ....
فوق بدايات الزهد تنسـكت
وتوحشـت ...
فوق بدايات الشـبق وأمعنت .
وقعت بأحرف توقيعى الأولى
فوق تضاريس الجسـد المعطاء
أبحرت بأشـرعة عذراء
لم أعبأ بالمد ... ولم أتلفت للأنواء
لم أجفل من عسـف الأمواج
غالبت العطش الوحشـى َّ بتقطير الأنداء
يممت تجاه الأفق المتباعد
أبحرت تجاه الحلم المأمول
أرخيت عنانى للمجهول
وأنا أتحدى ... وأقول
لايعنينى كل حسـابات العقلاء
أو تدبير الحكماء
.................
رغم توجس روحى
من وهن يتبدى وتباشـير أفول
وقعت على صك الميلاد الثانى
ورفضت التوقيع على صك الموت .

نـعـيـم صـبـرى
قصيدة لم تنشـر .

22‏/11‏/2010

(56)

إذا أحسـسـت فى لفظى فتورا
وحِفظى والبلاغة والبيان ِ
فلا ترتب بفهمى إن رقصى
على مقدار إيقاع الزمان ِ

أبو الفتح البسـتى
القرن الخامس الهجرى

14‏/08‏/2010

يوميات طفل قديم

(55)


(14)
سمير زميلنا فى الفصل فشّار معروف، ومع ذلك ينجح دائماً فى إقناعنا بأن آخر حكاية هى فعلاً جدية.
عندما مات جدى عزيز ذهبت حزيناً إلى المدرسة. أصر الجميع على ذهابى. كان يرقد على سريره وحوله نساء متشحات بالسواد ويبكين. بعضهن كان يصرخ بحدة فيفزعنى. فى المدرسة طيَّب سمير خاطرى وأخرج من حقيبته صورة للعذراء مريم.
قال لى لا تحزن. عندما تذهب للمنزل ضع هذه الصورة على صدر جدك. إذا كانت أعماله خَيِّرة فستتحول الصورة إلى اللون الأبيض، عندئذ تأكد أنه سيذهب إلى الجنة، أما إذا كانت أعماله سيئة، فسيتحول لون الصورة إلى السواد.
أنا أثق أن جدى سيذهب إلى الجنة، لذلك أخذت الصورة سعيداً. عدت إلى المنزل مسرعاً، ودخلت فرحاً إلى غرفة جدى، بسرعة خاطفة وضعت الصورة على صدر جدى وقلت للجميع: إذا تحولت الصورة إلى اللون الأبيض سيذهب إلى الجنة وتتوقفن عن البكاء ضحك الجميع على استحياء ونهرتنى عمتى فريدة، هى أخت جدى ولكنى كنت أناديها مثلما تفعل أمى. قالت لى وهى تدارى ابتسامة، امشِ الله يخيبك، هَمُّ يُضَحِّك وهَمُّ يُبَكىِّ.

(15)
كان مصروفى فى المدرسة الابتدائية تعريفة فى اليوم، أى نصف قرش. كنت أتطلع شوقاً إلى أخذ مصروفى شهرياً بدلاً من يومياً. خمسة عشر قرشاً مبروكة، يعنى مرتباً شهرياً. ظللت ألح على أمى، حيث كانت هى المسئولة عن مصروف البيت، حتى وافقت أخيراً ولكن على مضض.
بدأت أنتظر أول الشهر قبلها بمدة. فى يوم أول الشهر انتظرت عودتى من المدرسة وعودة أمى من عملها بصبر نافد. طلبت المصروف فقالت لى اصبر حتى نتغدى ونستريح قليلاً. نهض أبى وأمى من نومهما واستعدا للخروج. مدت أمى يدها فى كيس الفلوس وأعطتنى ورقتين، عشرة قروش وخمسة قروش. كانتا جديدتين ومشدودتين.
انتظرت نزولهما ثم نزلت بعدهما متوجهاً إلى عم عبد السيد البقال. دخلت المحل وأخذت أنظر إلى الأرفف. لمحت زجاجات الكينا التى كنت أرقبها منذ زمن وأتابع إعلاناتها. كينا بسليرى الحديدية. زجاجات كبيرة وزجاجات متوسطة وصغيرة.
سألت عن سعر الزجاجة الصغيرة فأفادنى بأنها بأربعة قروش ونصف.
كنت أحب الجبن الرومى القديم وتخيلته مَزةً محترمة، كذلك الزيتون المخلل.
طلبت زجاجتين من الكينا وقلت لنفسى تسعة قروش، ثم طلبت بقرشين جبنة رومى وبقرش زيتون مخلل.
أعطيت عم عبد السيد ورقتى النقود وأنا لا أعلم كم يتبقى لى من فرط الإثارة.
أعطانى الرجل ثلاثة قروش، فكرت قليلاً ثم قلت له أعطنى بقرش ملبس نادلر وبقرشين شيكولاتة كورونا.
أخذت الكيس وعدوت نحو المنزل ملهوفاً. كانت جدتى بالشرفة تشم الهواء ومعها دادة حميدة. خفت ان يفاجئنى أحد وأنا فى وسط القعدة. وجدت الحل. نزلت تحت المائدة مختبئاً بين أرجل الكراسى وبدأت بفتح زجاجة الكينا، تذوقتها ففوجئت بطعم له مرارة لا بأس بها. شعرت بدرجة من الإخفاق لكننى كنت أريد أن أقضى وقتاً سعيداً، فتحت ورقة الجبن الرومى وورقة الزيتون المخلل وتغلبت بهما على مرارة الكينا. شربت الزجاجتين وأكلت الجبن والزيتون والشيكولاتة ورحت فى نوم عميق. استيقظت على ضجيج وشتائم وتوعد وتهديد وقرار بعدم أخذ مصروف شهرى بعد ذلك.

(16)
حمام يوم الخميس هذا عذاب فظيع. تأخذنى حميدة المربية وتمزق جسمى باللوفة الخشنة حتى تتأكد من نظافته.
الماء ساخن جداً واللوفة مثل الحجر. كلما نعمت قليلاً تغيرها حتى تنظف الجسم كما تقول. وغسل الرأس والوجه بالماء والصابون هو العذاب الأكبر. الصابون يدخل فى عينّى فيحرقهما.
رائحته عفنة ولا يريدون تغييره. لابد أن يكون الصابون نابلسى شاهين. باختصار يفعلون فى حمام يوم الخميس كل ما من شأنه أن يعذب ويحيل اليوم إلى كابوس مخيف.

من كتاب "يوميات طفل قديم" . ذكريات طفولة .

07‏/08‏/2010

حرائق وفيضانات وقمح

(54)

الحرائق فى روسـيا أتت على محصول القمح لهذا العام ، وروسـيا مصدر أسـاسـى للقمح فى العالم .
الفيضانات فى باكسـتان أتت على محصول القمح لهذ العام ، وباكسـتان مصدر أسـاسـى آخر للقمح فى العالم .
ماذا بعد ؟!
ماذا ننتظر للعام القادم ؟ . هل نتوقع مجاعة للعالم ؟
وماذا يفعل العالم المشـغول بالحروب هنا وهناك ؟
أليس من الأجدى التفكير فى لقمة الخبز أولا ، وإذا كان هناك المزيد من الوقت فليتلهى من يريد بإثارة الحروب وصناعة السـلاح .

05‏/08‏/2010

Yo-Yo Ma The Swan Saint-Saens

(53)

فلنحاول أن نبطئ إيقاع الحياة اللاهث

(52)

إيقاع الحياة اللاهث الآن يسـلب منا كل معانى الحياة الجميلة ، يسـلب منا لحظات المتعة ، يقطع أنفاسـنا فلا نتمكن من الاسـتيعاب أو الاسـتمتاع أو التأمل . نعبر بلحظات المتعة فلا ننتبه لأن نتمثلها جيدا ، أن نقول .. الله .. ، أن نعبر عن سـعادتنا بهذه المتعة ، فتمر كالبرق خاطفة ونواصل نحن لهاثنا من جديد .. لمه ؟ .. لماذا لا نتوقف لنسـأل أنفسـنا ؟

لنحاول أن نبطئ إيقاع الحياة ، بقدر اسـتطاعتنا ، أن نتحرك ببطء كلما أمكننا ذلك ، أن نتنفس بهدوء ، أن نشـرب قهوتنا على مهل ، نتذوق رشـفاتها ، أن نأكل بهدوء ما نحب من طعام ، لن نخسـر سـوى دقائق معدودت ، لا قيمة لها فى واقع الأمر ، فكم من وقت ضائع فى حياتنا دون جدوى ، إنها لوثة أصابتنا دون أن ننتبه . ليتنا ننتبه وننجح فى الإفلات من هذا اللهاث الطائش .






28‏/07‏/2010

(50)


(11)
يوم السبت أول الأسبوع. هو يوم خالتى أم عبده. خالتى أم عبده تضطلع بمهمة الغسيل فى بيتنا منذ وعيت.
سيدة طيبة عجوز يقولون إن زوجها توفى وهو صغير فى السن وإنها تشقى لتربى ابنها عبده أحسن تربية. ترتسم الطيبة على ملامحها خاصة عندما تشرق ابتسامتها الحانية على ثغرها الخالى من الأسنان. كنت مغرماً بملاءتها اللف السوداء.
أرقبها وهى تلفها حول جسمها بخفة وإحكام قبل أن ترحل.
سيمر أسبوع كامل قبل أن نراها تطرق الباب صباح السبت.
كنت أحب الجلوس أمامها على كرسى المطبخ والطشت بيننا.
على يسارها كوم الغسيل وعلى يمينها حلة الغسيل الكبيرة فوق موقد الجاز البريموس الذى يسبب ضجة كبيرة فى الحمام.
تجلس خالتى أم عبده جلسة الغسيل. رجل مفرودة حول الطشت والأخرى مضمومة إليها فى رشاقة بالغة.
نضع قطع الصابون الصغيرة التى يسمونها براوى الصابون، نضعها فى حلة الغسيل، هذه يطلقون عليها أيضاً حلة الغليَّة، وتأخذ فى إسقاط الغسيل فى الحلة بمهارة شديدة. أجمل ما فى الغسيل هو عصاية الغليَّة، عصا خشبية طولها يماثلنى فى الطول. كنت ارجو خالتى أم عبده أن تتركنى ألعب بها مثلها فى حلة الغسيل. كانت ترفض خوفاً علىَّ. أبدأ فى الرجاء والتوسل فتضعف مقاومتها لكنها تشترط أن تمسك بها معى ونحن نلعب فى الحلة حتى لا أقلب الحلة علىَّ. يقولون على دور الغسيل فُم غسيل. آخر فُم غسيل تستخدم خالتى أم عبده الزهرة الملفوفة فى الشاش، الزهرة لونها أزرق. تقول خالتى أم عبده إن هذه الزهرة تزهزه الغسيل.

(12)
موضوعات الإملاء فضيحة. أعود للبيت والخطوط الحمراء تملأ الصفحة. ثمانية أخطاء فى أربعة أسطر. ينهض أبى من النوم ويشرب الشاى بالحليب. يفتح المذياع على قرآن الساعة الثامنة قبل نشرة الأخبار. ينادينى لتصحيح الإملاء ودائما يتعجب. لا أدرى مم يتعجب؟ فعلاً صعب جداً. دائماً أتحير هل هى فتحة أم ألف، كذلك الواو والضمة. وموضوع "حمار" التى يقولها لى يستفزنى جداً. هل كان جدى يقول له "حمار" عندما يخطىء فى الإملاء؟ لن أقول لابنى "حمار" أبداً.

(13)
النشافة هى أكثر الأدوات المدرسية متعةً بالنسبة لى.
جسمها الذى يشبه جسم البطة ومقبضها المستدير الشكل وهو يدور حول العامود المقلوظ ليفسح الطريق لورق النشاف كى يدخل فى مكانه ثم يعود فيطبق عليه حتى يثبته فى مكانه. كنا نكتب بالريشة بعد غمسها فى الدواة لكى نلعب بالنشافة. نؤرجحها يميناً ويساراً فوق الكلمات المنثورة على الورق ثم نقلبها وننظر إليها فى حب استطلاع ، ترى أى الأشكال انطبعت على سطح النشاف.
نعاود الكتابة والإطباق عليها بالنشافة حتى يتشكل لنا عالم من النقوش المنفلتة بلا نظام، نقاط صغيرة وكبيرة وشابيك وعيون وأجسام عجيبة.
ورق النشاف الجيد ليس من السهولة الحصول عليه.
النشاف يباع على شكل أفرخ كبيرة نشتريها ونقطعها باقتصاد شديد حسب حجم النشافة. كان الاقتصاد فى حجم الورقة ونحن نقصها يؤتى أحياناً بنتيجة عكسية عندما نحاول تثبيت ورقة النشاف فى النشافة. نكتشف أن الورقة أقصر قليلاً مما ينبغى فلا نستطيع تثبيتها جيداً دون أن تفلت منا فنضطر إلى قص ورقة أخرى من الفرخ فى أسى، والفكرة الأساسية فى ورق النشاف الجيد هى ألا يشف الحبر عليه فينتشر على سطحه بلا نظام ويفسد بالتالى عالمنا الصغير الذى نشكله على سطحه.

من كتاب "يوميات طفل قديم" . ذكريات طفولة

27‏/07‏/2010

لوحة للفنان جورج براك


(49)



غـانـدى

(48)

لو ساءت أحوالُ الدنيا
فَتَبسَّمْ
لكن لا تفرحْ
دون ضميرْ
ما أسهلَ أن تقهرَ غيرَكَ
ما أسهلَ أن تتظاهَر بالجبروتْ
لكن
هل أنت قويُّ حقاً
أم هُيّئَ لكْ
لو تلطِمني فوق الخد الأيمن
سأديرُ الآخر أيضاً لكْ
لكني
سأدققُ في عينيكْ
لأرى فيكَ الإنسانْ
كي أدعوَه من تحتِ قناعِ البطش.
جسدُ عارٍ
قديسُ يسعى في سيماءِ المتسولْ
هندوسيُّ مسلمُ يدعو لتعاليمِ يسوع
ثروته عجلةُ مِغزَلْ
بعضُ قصاصاتِ قماشْ
عَنْزَه
وإناءُ يحلبُ فيه
قد ناضل طولَ العمرِ ليصبحَ إنساناً
وسعى سعياً شاقاً
حتى يصبحَ عرياناً
حتى يستمتعَ بالفقرْ

26‏/07‏/2010


(47)


الفن :
ــــــــــ
الفن هو خـَلـق وتنظيم قصدى لكينونة تعبيرية أو تشـكيلية ، تتسـم بالجمال ، يقوم به الإنسـان أحيانا ، بلا غاية محددة سـلفا سـوى عملية الخلق والتنظيم ذاتها ، ذلك لإشـباع حاجة الإنسـان الذى يقوم بها ، ولا يمنع هذا من اشـتمالها أحيانا على نتائج عـَرَضيـَّة أو فرعية لعملية الخلق والتنظيم ، قد يراها البعض محققة لبعض الغايات .

25‏/07‏/2010


(46)

الجمال :
ـــــــــــــ
الجمال هو كينونة مـُدرَكة ، يـُدركها الإنسـان فينفعل وجدانه بأحد أو بعض المشـاعر التى تشـمل الإعجاب ، البهجة ، السـعادة ، الفرح ، الدهشـة ، النشـوة ، الانبهار ، الكشـف ، التسـامى ، البسـاطة ، التوافق ، التسـاؤل ، التعجب ، الذهول ، ويبقى الباب مفتوحا لإضافة المزيد من المشـاعر التى قد تشـمل أيضا حزمة أخرى منها الغضب ، الثورة ، الرفض والاعتراض .

06‏/06‏/2010

(44)

(10)
هل لابد أن يأكل الإنسان بالعافية. أنا لا أحب الكوسة كما لا أحب الخرشوف. أشعر أننى سأتقيأ ومع ذلك حميدة مربيتى تصر أن آكل رغم انفى. تزنقنى فى المطبخ بين الحائط والطبلية المستديرة وتضع الأكل عنوةً فى فمى، بعدها تأخذنى للاستحمام من رذاذ الصلصة المنتشرة على ملابسى بسبب المعركة... واللهِ شىء يكفر.

(11)
يوم السبت أول الأسبوع. هو يوم خالتى أم عبده. خالتى أم عبده تضطلع بمهمة الغسيل فى بيتنا منذ وعيت.
سيدة طيبة عجوز يقولون إن زوجها توفى وهو صغير فى السن وإنها تشقى لتربى ابنها عبده أحسن تربية. ترتسم الطيبة على ملامحها خاصة عندما تشرق ابتسامتها الحانية على ثغرها الخالى من الأسنان. كنت مغرماً بملاءتها اللف السوداء.
أرقبها وهى تلفها حول جسمها بخفة وإحكام قبل أن ترحل.
سيمر أسبوع كامل قبل أن نراها تطرق الباب صباح السبت.
كنت أحب الجلوس أمامها على كرسى المطبخ والطشت بيننا.
على يسارها كوم الغسيل وعلى يمينها حلة الغسيل الكبيرة فوق موقد الجاز البريموس الذى يسبب ضجة كبيرة فى الحمام.
تجلس خالتى أم عبده جلسة الغسيل. رجل مفرودة حول الطشت والأخرى مضمومة إليها فى رشاقة بالغة.
نضع قطع الصابون الصغيرة التى يسمونها براوى الصابون، نضعها فى حلة الغسيل، هذه يطلقون عليها أيضاً حلة الغليَّة، وتأخذ فى إسقاط الغسيل فى الحلة بمهارة شديدة. أجمل ما فى الغسيل هو عصاية الغليَّة، عصا خشبية طولها يماثلنى فى الطول. كنت ارجو خالتى أم عبده أن تتركنى ألعب بها مثلها فى حلة الغسيل. كانت ترفض خوفاً علىَّ. أبدأ فى الرجاء والتوسل فتضعف مقاومتها لكنها تشترط أن تمسك بها معى ونحن نلعب فى الحلة حتى لا أقلب الحلة علىَّ. يقولون على دور الغسيل فُم غسيل. آخر فُم غسيل تستخدم خالتى أم عبده الزهرة الملفوفة فى الشاش، الزهرة لونها أزرق. تقول خالتى أم عبده إن هذه الزهرة تزهزه الغسيل.

(12)
موضوعات الإملاء فضيحة. أعود للبيت والخطوط الحمراء تملأ الصفحة. ثمانية أخطاء فى أربعة أسطر. ينهض أبى من النوم ويشرب الشاى بالحليب. يفتح المذياع على قرآن الساعة الثامنة قبل نشرة الأخبار. ينادينى لتصحيح الإملاء ودائما يتعجب. لا أدرى مم يتعجب؟ فعلاً صعب جداً. دائماً أتحير هل هى فتحة أم ألف، كذلك الواو والضمة. وموضوع "حمار" التى يقولها لى يستفزنى جداً. هل كان جدى يقول له "حمار" عندما يخطىء فى الإملاء؟ لن أقول لابنى "حمار" أبداً.

من كتاب "يوميات طفل قديم" . ذكريات طفولة . نـعـيـم صـبـرى

26‏/02‏/2010

عابر سـبيل

(43)

فى هذا الكونِ الممهورِ بتوقيعٍ غامض
أتوخَّى الليلَ المُمعِنَ فى الإنصات
أتوسـلُ فيه الحَلَكَ الحانى فى الطرقات
أتسـولُ منه وطناً وفراشـاً
فيجودُ علىَّ مصادفةً
أو يتمَـنـَّعُ أحياناً
أحتاجُ لقرشٍ أو قرشـين
لأمَوِّلَ ثمنَ المشـروب
أخلعُ سـروالى عِدَّةَ مرات
وأعودُ إليه مهزوماً
أو مكلوماً
لألوذَ به من عَســفِ البردِ ومن بردِ النَظَرات .

تيهٌ جامح
حَلَكٌ جاثِم
بَردٌ يَتَشَـفَّى فى الدفءِ المنشـود
نظراتٌ عطشـى للودِّ الممفقود
وكيانٌ فى هذا الكونِ المجهول
يسـعى ليقول
إنى حرٌ ... حائر
مهزومٌ ... منتفضٌ ... ثائر
نَزِقٌ .. عَفَوىٌّ ... موقوتٌ ... زائل ...

نـعـيـم صـبـرى
قصيدة لم تُنشـَر

16‏/01‏/2010

يوميات طفل قديم (9) ـ (10) ـ (11)

(42)

(9)
عمى محمود طويلة جارنا حكاية جميلة. رجل جاوز الستين، بشوش المنظر. يضحك كثيراً ويعاكس طوب الأرض. خارج المنزل يرتدى البدلة كاملة ويضع منديلاً حريرياً مزركشاً فى جيب الـﭽـاكتة. يمسك عصا بيده لزوم الشياكة، أنا أعلم أنه لا يحتاجها لأنه كان يجرى خلفى على السلم بدون عصا وهو يرتدى ملابسه الداخلية فى الصيف لأنه لا يحتمل الحر. كان لا يخجل من ارتدائه ملابسه الداخلية فهو يعتبر كل البيت عائلته. كان يشتم بسهولة وخفة دم ويستعمل أية شتائم دون حرج.
اعتاد عمى محمود أن يدق جرس الشقة ويجرى نحو شقته المقابلة لنا ليقفل الباب وينتظر خلفه مترقباً، كنت أعلم أنه ينظر من ثقب الباب. أنتظر قليلاً ثم أفتح باب الشقة بهدوء، أتسحب دون صوت وأدق جرس باب عم محمود. يفتح الباب فجأة ويحتضننى مقهقهاً.
كان يعطينى شيئاً يسمى "السن سن"، نوع من الحلوى صغير جداً ولكنه لذيذ. عندما مات عمى محمود جريت فى الشارع بأقصى سرعة لأحضر طبيباً. قال لنا: "شدوا حيلكم... البقية فى حياتكم". شعرت يومها أن الدنيا غادرة وليست جميلة... وأننى لا أحبها.

(10)
هل لابد أن يأكل الإنسان بالعافية. أنا لا أحب الكوسة كما لا أحب الخرشوف. أشعر أننى سأتقيأ ومع ذلك حميدة مربيتى تصر أن آكل رغم انفى. تزنقنى فى المطبخ بين الحائط والطبلية المستديرة وتضع الأكل عنوةً فى فمى، بعدها تأخذنى للاستحمام من رذاذ الصلصة المنتشرة على ملابسى بسبب المعركة... واللهِ شىء يكفر.

(11)
يوم السبت أول الأسبوع. هو يوم خالتى أم عبده. خالتى أم عبده تضطلع بمهمة الغسيل فى بيتنا منذ وعيت.
سيدة طيبة عجوز يقولون إن زوجها توفى وهو صغير فى السن وإنها تشقى لتربى ابنها عبده أحسن تربية. ترتسم الطيبة على ملامحها خاصة عندما تشرق ابتسامتها الحانية على ثغرها الخالى من الأسنان. كنت مغرماً بملاءتها اللف السوداء.
أرقبها وهى تلفها حول جسمها بخفة وإحكام قبل أن ترحل.
سيمر أسبوع كامل قبل أن نراها تطرق الباب صباح السبت.
كنت أحب الجلوس أمامها على كرسى المطبخ والطشت بيننا.
على يسارها كوم الغسيل وعلى يمينها حلة الغسيل الكبيرة فوق موقد الجاز البريموس الذى يسبب ضجة كبيرة فى الحمام.
تجلس خالتى أم عبده جلسة الغسيل. رجل مفرودة حول الطشت والأخرى مضمومة إليها فى رشاقة بالغة.
نضع قطع الصابون الصغيرة التى يسمونها براوى الصابون، نضعها فى حلة الغسيل، هذه يطلقون عليها أيضاً حلة الغليَّة، وتأخذ فى إسقاط الغسيل فى الحلة بمهارة شديدة. أجمل ما فى الغسيل هو عصاية الغليَّة، عصا خشبية طولها يماثلنى فى الطول. كنت ارجو خالتى أم عبده أن تتركنى ألعب بها مثلها فى حلة الغسيل. كانت ترفض خوفاً علىَّ. أبدأ فى الرجاء والتوسل فتضعف مقاومتها لكنها تشترط أن تمسك بها معى ونحن نلعب فى الحلة حتى لا أقلب الحلة علىَّ. يقولون على دور الغسيل فُم غسيل. آخر فُم غسيل تستخدم خالتى أم عبده الزهرة الملفوفة فى الشاش، الزهرة لونها أزرق. تقول خالتى أم عبده إن هذه الزهرة تزهزه الغسيل.

من كتاب "يوميات طفل قديم" . ذكريات طفولة.